كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَقُولُ: أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَرْفُوعُ فَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ قَوْلُ مُخَالِفٍ لِلْمُتَبَادَرِ مِنَ اللُّغَةِ- فَيَحْيَى بْنُ هَيْمَانَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ هُوَ الْكُوفِيُّ الْعِجْلِيُّ كَانَ مِنَ الْعُبَّادِ ضَعَّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ: حَدَّثَ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِعَجَائِبَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ كَانَ صَدُوقًا لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ، وَلَكِنَّهُ كَثِيرُ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَقَدْ أُصِيبَ بِالْفَالِجِ فَتَغَيَّرَ حِفْظُهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَالْمِنْهَالُ بْنُ خَلِيفَةَ الْعِجْلِيُّ الْكُوفِيُّ الَّذِي رَوَى عَنْهُ؛ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدِيثُهُ مُنْكَرٌ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يَنْفَرِدُ بِالْمَنَاكِيرِ عَنِ الْمَشَاهِيرِ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَهَذَا طَعْنٌ مُبِينٌ.
السَّبَبُ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى تَوْثِيقِ الْبَزَّارِ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْحَجَّاجُ وَهُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ الْكُوفِيُّ الْقَاضِي مُدَلِّسٌ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَأَوْلَى الْآثَارِ بِالْقَبُولِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَوَّلُ الْمُوَافِقُ الْمُتَبَادَرَ مِنَ اللُّغَةِ؛ أَيْ: طُوفَانِ الْمَطَرِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَمِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَأَوْلَاهَا بِالْقَبُولِ مَا لَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ مِنْ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ نَفْسِهَا، وَهُوَ مَا نَنْقُلُهُ عَنْهَا: جَاءَ فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ: (13) ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: بَكِّرْ فِي الْغَدَاةِ، وَقِفْ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ، وَقُلْ لَهُ: كَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلَهُ الْعِبْرَانِيِّينَ أَطْلِقْ شَعْبِي لِيَعْبُدُونِي (14) فَإِنِّي فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ مُنْزِلٌ جَمِيعَ ضَرَبَاتِي عَلَى قَلْبِكَ، وَعَلَى عَبِيدِكَ وَشَعْبِكَ؛ لِكَيْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلِي فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، وَأَنَا (15) الْآنَ أَمُدُّ يَدِيَ وَأَضْرِبُكَ أَنْتَ وَشَعْبَكَ بِالْوَبَاءِ فَتَضْمَحِلُّ مِنَ الْأَرْضِ (16) غَيْرَ أَنِّي لِهَذَا أُبْقِيكَ؛ لِكَيْ أُرِيَكَ قُوَّتِي؛ وَلِكَيْ يُخْبَرَ بِاسْمِي فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، (17) وَأَنْتَ لَمْ تَزَلْ مُقَاوِمًا لِشَعْبِي (18) هَا أَنَا؟ مُمْطِرٌ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ مِنْ غَدٍ بَرْدًا عَظِيمًا جِدًّا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي مِصْرَ مُنْذُ يَوْمِ أُسِّسَتْ إِلَى الْآنِ ثُمَّ ذَكَرَ وُقُوعَ الْبَرْدِ مَعَ نَارٍ مِنَ السَّمَاءِ، وَوَصَفَ عَظَمَتَهُ وَشُمُولَهُ لِجَمِيعِ بِلَادِ مِصْرَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ طَلَبَ مُوسَى وَهَارُونَ، وَاعْتَرَفَ لَهُمَا بِخَطَئِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُمَا أَنْ يَشْفَعَا إِلَى الرَّبِّ لِيَكُفَّ هَذِهِ النَّكْبَةَ عَنْ مِصْرَ، وَوَعَدَهُمَا بِإِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ فِي خِتَامِ ذَلِكَ:
(33) فَخَرَجَ مُوسَى مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ لَدُنْ فِرْعَوْنَ، وَبَسَطَ يَدَيْهِ إِلَى الرَّبِّ فَكَفَّتِ الرُّعُودُ وَالْبَرْدُ، وَلَمْ يَعُدِ الْمَطَرُ يَهْطِلُ عَلَى الْأَرْضِ اهـ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَطَرَ عِنْدَ الْوَعِيدِ، بَلْ ذَكَرَ هُنَا عِنْدَ كَفِّ النَّكْبَةِ.
وَأَمَّا الْجَرَادُ فَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ بَعْدَ الطُّوفَانِ، فَفِيهَا بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَسَا قَلْبُهُ فَلَمْ يُطْلِقْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخْبَرَ الرَّبُّ مُوسَى- كَمَا فِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ- بِأَنَّهُ قَسَا قَلْبُهُ وَقُلُوبُ عَبِيدِهِ لِيُرِيَهُمْ آيَاتِهِ، وَلِكَيْ يَقُصَّ مُوسَى عَلَى ابْنِهِ وَابْنِ ابْنِهِ-كَذَا- مَا فَعَلَ بِالْمِصْرِيِّينَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُنْذِرَهُ بِإِرْسَالِ الْجَرَادِ عَلَيْهِمْ فَيَأْكُلَ مَا سَلَمَ مِنَ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ فَلَمْ يُحْسِهِ الْبَرْدُ، وَيَمْلَأَ بُيُوتَهُ وَبُيُوتَ عَبِيدِهِ، وَسَائِرَ بُيُوتِ الْمِصْرِيِّينَ فَفَعَلَ- فَرَضِيَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَذْهَبَ الرِّجَالُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِيَعْبُدُوا رَبَّهُمْ دُونَ النِّسَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَالْمَوَاشِي، فَمَدَّ مُوسَى عَصَاهُ بِأَمْرِ الرَّبِّ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ (15) فَأَرْسَلَ الرَّبُّ رِيحًا شَرْقِيَّةً سَاقَتِ الْجَرَادَ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ فَغَطَّى جَمِيعَ وَجْهِ الْأَرْضِ حَتَّى أَظْلَمَتِ الْأَرْضُ، وَأَكَلَ جَمِيعَ عُشْبِهَا، وَجَمِيعَ مَا تَرَكَهُ الْبَرْدُ مِنْ ثَمَرِ الشَّجَرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ الْخُضْرَةِ فِي الشَّجَرِ، وَلَا فِي عُشْبِ الصَّحْرَاءِ فِي جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ وَفِيهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ اسْتَدْعَى مُوسَى وَهَارُونَ، وَاعْتَرَفَ لَهُمَا بِخَطَئِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُمَا الصَّفْحَ وَالشَّفَاعَةَ إِلَى الرَّبِّ إِلَهِهِمَا أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ هَذِهِ التَّهْلُكَةَ فَفَعَلَا، فَأَرْسَلَ اللهُ رِيحًا غَرِيبَةً فَحَمَلَتِ الْجَرَادَ كُلَّهُ فَأَلْقَتْهُ فِي بَحْرِ الْقُلْزُمِ، وَأَمَّا الْقُمَّلُ- بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ- فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ السُّوسُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْحِنْطَةِ، وَعَنْهُ أَنَّهُ الدَّبَى، وَهُوَ الْجَرَادُ الصِّغَارُ الَّذِي لَا أَجْنِحَةَ لَهُ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ دَوَابٌّ سُودٌ صِغَارٌ، وَعَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهَا دَابَّةٌ تُشْبِهُ الْقَمْلَ تَأْكُلُ الْإِبِلَ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْقُمَّلَ عِنْدَ الْعَرَبِ الْحَمْنَانُ وَاحِدَتُهَا حَمْنَانَةٌ، وَهِيَ صِغَارُ الْقِرْدَانِ- ذَكَرَ هَذَا كُلَّهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَجَزَمَ الرَّاغِبُ بِأَنَّ الْقُمَّلَ صِغَارُ الذُّبَابِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ، فَفِيهَا أَنَّ الْبَعُوضَ وَالذِّبَّانَ كَانَ مِنَ الضَّرَبَاتِ الْعَشْرِ الَّتِي ضَرَبَ الرَّبُّ بِهَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ؛ لِيُرْسِلُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى، فَفِي الْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ: أَنَّ مُوسَى أَنْذَرَ فِرْعَوْنَ أَنِ الذِّبَّانَ سَيَدْخُلُ بُيُوتَهُ وَبُيُوتَ عَبِيدِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ فَيُفْسِدُهَا، وَلَا يَدْخُلُ فِي بُيُوتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُقِيمِينَ فِي أَرْضِ جَاسَّانِ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ، وَفَسَدَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَأْثِيرِ الذِّبَّانِ.
وَأَمَّا الضَّفَادِعُ فَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ لَا خِلَافَ فِيهَا، وَفِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ (1) وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى ادْخُلْ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقُلْ لَهُ: كَذَا قَالَ الرَّبُّ أَطْلِقْ شَعْبِي؛ لِيَعْبُدُونِي (2) وَإِنْ أَبَيْتَ أَنْ تُطَلِقَهُمْ فَهَا أَنَا ذَا ضَارِبٌ جَمِيعَ تُخُومِكَ بِالضَّفَادِعِ (3) فَيَفِيضُ النَّهْرُ ضَفَادِعَ فَتَصْعَدُ وَتَنْتَشِرُ فِي بَيْتِكَ، وَفِي مَخْدَعِ فِرَاشِكَ، وَعَلَى سَرِيرِكَ، وَفِي بُيُوتِ عَبِيدِكَ وَشَعْبِكَ، وَفِي تَنَانِيرِكَ وَمَعَاجِنِكَ إِلَخْ. وَكَذَلِكَ كَانَ، وَلَكِنْ فِيهَا أَنَّ السَّحَرَةَ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَصْعَدُوا الضَّفَادِعَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ طَلَبَ مِنْ مُوسَى أَنْ يَشْفَعَ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ بِرَفْعِ الضَّفَادِعِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ قَالَ: (13) فَفَعَلَ الرَّبُّ كَمَا قَالَ مُوسَى، وَمَاتَتِ الضَّفَادِعُ مِنَ الْبُيُوتِ؟ وَالْأَقْبِيَةِ وَالْحُقُولِ (14) فَجَمَعُوهَا أَكْوَامًا، وَأَنْتَنَتِ الْأَرْضُ مِنْهَا.
وَأَمَّا الدَّمُ، فَفَسَّرَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ بِالرُّعَافِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّهُ دَمٌ كَانَ فِي مِيَاهِ الْمِصْرِيِّينَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ، وَهُوَ فِيهَا أَوَّلُ الضَّرَبَاتِ الْعَشْرِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بَعْدَ انْقِلَابِ الْعَصَا ثُعْبَانًا. فَفِي الْفَصْلِ السَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّ الرَّبَّ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يُنْذِرَ فِرْعَوْنَ ذَلِكَ فَفَعَلَ (19) ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى قُلْ لِهَارُونَ: خُذْ عَصَاكَ، وَمُدَّ يَدَكَ عَلَى مِيَاهِ الْمِصْرِيِّينَ وَأَنْهَارِهِمْ وَخُلُجِهِمْ وَمَنَاقِعِهِمْ وَسَائِرِ مَجَامِعِ مِيَاهِهِمْ، فَتَصِيرَ دَمًا، وَيَكُونُ دَمًا فِي جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ، وَفِي الْخَشَبِ وَفِي الْحِجَارَةِ وَفِيهِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ فَعَلَا ذَلِكَ، وَأَنَّ سَمَكَ النَّهْرِ مَاتَ، وَأَنْتَنَ النَّهْرُ فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْمِصْرِيُّونَ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهُ، وَفِيهِ أَنَّ سَحَرَةَ مِصْرَ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ؟؟ وَأَنَّ الدَّمَ دَامَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ.
هَذِهِ الْخَمْسُ جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْآيَاتِ التِّسْعِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمُبَالَغَاتِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ فَلَا هُوَ يَنْفِيهَا وَلَا يُؤَيِّدُهَا، وَمُقْتَضَى أُصُولِ الْإِسْلَامِ الْوَقْفُ فِيهَا إِلَّا مَا دَلَّ دَلِيلٌ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى نَفْيِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهَا أَنَّ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ أَوِ الضَّرَبَاتِ الْبَعُوضَ وَذَلِكَ أَنَّ هَارُونَ ضَرَبَ بِأَمْرِ الرَّبِّ تُرَابَ الْأَرْضِ فَكَانَ الْبَعُوضُ عَلَى النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ، وَكُلُّ تُرَابِ الْأَرْضِ؟ صَارَ بَعُوضًا فِي جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ كَذَا فِي (8: 17 خر) وَفِيهَا أَنَّ السَّحَرَةَ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ! وَمِنْهَا الْوَبَاءُ وَقَعَ عَلَى دَوَابِّ الْمِصْرِيِّينَ وَأَنْعَامِهِمْ فَمَاتَتْ كُلُّهَا مِنْ دُونِ مَوَاشِي الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهَا شَيْءٌ وَمِنْهَا الْبُثُورُ وَالْقُرُوحُ الْمُنْتَفِخَةُ أَصَابَتِ النَّاسَ وَالْبَهَائِمَ- وَمِنْ أَيْنَ جَاءَتِ الْبَهَائِمُ بَعْدَ أَنْ مَاتَتْ بِأَسْرِهَا؟- وَمِنْهَا الظَّلَامُ غَشَى جَمِيعَ الْمِصْرِيِّينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَانَ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ فِيهَا يَتَمَتَّعُونَ بِالنُّورِ وَحْدَهُمْ، وَمِنْهَا إِمَاتَةُ جَمِيعِ أَبْكَارِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ وَهِيَ الضَّرْبَةُ الْعَاشِرَةُ فَفِيهَا وَقَالَ مُوسَى: كَذَا قَالَ الرَّبُّ إِنِّي نَحْوَ نِصْفِ اللَّيْلِ أَجْتَازُ فِي وَسَطِ مِصْرَ فَيَمُوتُ كُلُّ بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بِكْرِ فِرْعَوْنَ الْجَالِسِ عَلَى عَرْشِهِ إِلَى بِكْرِ الْأَمَةِ الَّتِي وَرَاءَ الرَّحَى، وَجَمِيعِ أَبْكَارِ الْبَهَائِمِ مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ بَعْدَ أَنْ مَاتَتْ مُنْذُ أَيَّامٍ؟ وَيَكُونُ صُرَاخٌ عَظِيمٌ فِي جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ (11: 4- 6 خر).
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} بَعْدَ بَيَانِ تِلْكَ الْآيَاتِ ذَكَرَ مَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِهَا وَتَأْوِيلِهَا مَعْطُوفًا عَلَيْهَا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} قَالَ فِي الْأَسَاسِ: ارْتَجَزَ الرَّعْدُ إِذَا تَدَاوَكَ صَوْتُهُ كَارْتِجَازِ الرَّجَزِ.. وَالْبَحْرُ يَرْتَجِزُ بِآذِيهِ، أَيْ مَوْجِهِ.. فَمَادَّةُ الرِّجْزِ تَدُلُّ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَلَى الِاضْطِرَابِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَهُوَ يَكُونُ فِي النَّفْسِ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَجْسَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بَدْرٍ: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} (8: 11) أَيْ: وَسْوَسَتَهُ لَهُمْ بِأَنْ يَأْخُذَهُمُ الْعَطَشُ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ الصَّبْرَ عَلَى الْقِتَالِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الصَّوْتِ، وَمِنْهُ الرَّجَزُ فِي الشِّعْرِ سُمِّيَ بِمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اضْطِرَابِ الصَّوْتِ فِي إِنْشَادِهِ، وَقَدْ سُمِّيَ عَذَابُ قَوْمِ لُوطٍ رِجْزًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (29: 34) وَفِي سُورَتَيْ سَبَأٍ وَالْجَاثِيَةِ إِنْذَارٌ لِلْكَافِرِينَ بِعَذَابٍ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٍ، وَفُسِّرَ الرِّجْزُ هُنَا بِالْعَذَابِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الطَّاعُونُ، وَكَأَنَّهُمَا أَخَذَاهُ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا «الطَّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ- أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ- فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدِمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَأَلْفَاظٍ أُخْرَى بِمَعْنَاهُ، مِنْهَا: «الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ ابْتَلَى اللهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ أُنَاسًا مِنْ عِبَادِهِ» إِلَخْ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «هُوَ عَذَابٌ أَوْ رِجْزٌ أَرْسَلَهُ اللهُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ نَاسٍ كَانُوا قَبْلَكُمْ» إِلَخْ، وَأَوَّلُهُ فِي بَعْضِهَا: «إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ» إِلَخْ، وَوَجْهُهُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الطَّاعُونَ مِنَ الْأَوْبِئَةِ الَّتِي تَضْطَرِبُ لَهَا الْقُلُوبُ لِشِدَّةِ فَتْكِهَا، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (2: 58، 59) وَهُوَ يَصْدُقُ بِطَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ نَزَلَ الطَّاعُونُ بِهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِرَارًا، وَلَا يُوجَدُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّاعُونَ هُوَ الْمُرَادُ بِالرِّجْزِ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَضَرْبَةُ الْقُرُوحِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّوْرَاةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الطَّاعُونَ، وَمَوْتُ الْأَبْكَارِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالطَّاعُونِ أَيْضًا.
وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ عِبَارَةِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الرِّجْزِ جِنْسُهُ، وَهُوَ كُلُّ عَذَابٍ تَضْطَرِبُ لَهُ الْقُلُوبُ أَوْ يَضْطَرِبُ لَهُ النَّاسُ فِي شُئُونِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، وَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ نِقْمَةٍ وَجَائِحَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ كَالْخَمْسِ الْمُبَيَّنَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَقُولُ لِمُوسَى عِنْدَ نُزُولِ كُلٍّ مِنْهَا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، وَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنَّا هَذِهِ، وَيَعِدُهُ بِأَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِيَعْبُدُوا رَبَّهُمْ، وَيَذْبَحُوا لَهُ ثُمَّ يَنْكُثُ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالرِّجْزِ أَفْرَادَهُ وَافَقَ التَّوْرَاةَ فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْ مُوسَى عِنْدَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا أَنْ يَدْعُو رَبَّهُ بِكَشْفِهَا عَنْهُمْ، وَلَفْظُ {لَمَّا} لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ قَالُوا بِهَذَا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ جُمْلَتَهُ، وَمَجْمُوعُ أَفْرَادِهِ أَوْ فَرْدٍ آخَرَ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، فَالْمُتَبَادَرُ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ كَشْفِهِ قَدْ وَقَعَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَيُرَجِّحُهُ التَّعْبِيرُ عَنْ نَكْثِهِمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ {يَنْكُثُونَ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ.
وَمَعْنَى النَّظْمِ الْكَرِيمِ: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَاضْطَرَبُوا اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الْبِئْرِ الْبَعِيدَةِ الْقَعْرِ، وَحَاصُوا حَيْصَةَ الْحُمُرِ فَوَقَعُوا فِي حَيْصَ بَيْصَ- وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ الْعَذَابِ بِالرِّجْزِ- قَالُوا عِنْدَ نُزُولِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ بِهِمْ: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، وَاسْأَلْهُ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ مِنْ أَمْرِ إِرْسَالِكَ إِلَيْنَا؛ لِإِنْقَاذِ قَوْمِكَ؛ لِيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، فَالنُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ عَهْدٌ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى لِمَنِ اخْتَصَّهُ بِذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ- صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدَيِ الظَّالِمِينَ} (2: 124) أَوِ ادْعُهُ بِالَّذِي عَهِدَ بِهِ إِلَيْكَ أَنْ تَدْعُوهُ بِهِ فَيُعْطِيكَ الْآيَاتِ وَيَسْتَجِيبُ لَكَ الدُّعَاءُ- أَنْ يَكْشِفَ عَنَّا هَذَا الرِّجْزَ، وَنَحْنُ نُقْسِمُ لَكَ لَئِنْ كَشَفْتَهُ عَنَّا لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} أَيْ: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ، وَمُنْتَهُونَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهَا- وَهُوَ عَوْدُ الْحَالِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ- أَوْ فِي مَجْمُوعِهَا، وَهُوَ الْغَرَقُ الَّذِي هَلَكُوا فِيهِ، إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ عَهْدَهُمْ، وَيَحْنَثُونَ فِي قَسَمِهِمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ أَيْ: فَاجَئُوا بِالنَّكْثِ، وَبَادَرُوا إِلَى الْحِنْثِ، بِلَا رَوِيَّةٍ وَلَا رَيْثٍ، وَأَصْلُ النَّكْثِ فِي اللُّغَةِ نَقْضُ مَا غُزِلَ أَوْ مَا فُتِلَ مِنَ الْحِبَالِ؛ لِيَعُودَ أَنْكَاثًا وَطَاقَاتٍ مِنَ الْخُيُوطِ كَمَا كَانَ، وَالْأَنْكَاثُ مَا نُقِضَ مِنَ الْغَزْلِ لِيُغْزَلَ ثَانِيَةً: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} (16: 92).
{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} أَيْ: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لَهُمْ بِأَنْ أَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ- وَهُوَ الْبَحْرُ فِي اللُّغَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْعَرَبِيَّةِ فِي الْأُلُوفِ مِنْ مُفْرَدَاتِهَا وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى النِّيلِ وَغَيْرِهِ- وَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى انْتَقَمْنَا تَفْسِيرِيَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ} (11: 45) وَعَلَّلَ هَذَا الِانْتِقَامَ كَمَا عَلَّلَ أَمْثَالَهُ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ، وَتَكَرَّرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَإِنْ لَمْ يُؤْتَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ آيَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ تَكْذِيبَ الْوَاحِدَةِ كَتَكْذِيبِ الْكَثِيرِ، وَيَقْتَضِيهِ بِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ، كَمَا أَنَّ تَكْذِيبَ أَحَدِ الرُّسُلِ كَتَكْذِيبِ الْجَمِيعِ إِذَا كَانَ بَعْدَ ظُهُورِ آيَتِهِ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى دَعْوَتِهِ. وَكَذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ كَوْنُ الْغَفْلَةِ عَنِ الْحَقِّ وَدَلَائِلِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا جَمْعُ الْآيَاتِ هُنَا فَلِأَنَّهَا مُتَعَدِّدَةٌ، وَأَمَّا عَطْفُ الِانْتِقَامِ بِالْفَاءِ فَلَيْسَ تَعْلِيلًا آخَرَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْقِيبٌ عَلَى كَوْنِهِ وَقَعَ بَعْدَ التَّكْذِيبِ بِتِلْكِ الْآيَاتِ كُلِّهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ الْعَذَابِ ثُمَّ يُكَذِّبُونَ، حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْأَجَلُ الْمَضْرُوبُ لَهُمُ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ؛ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهَا كُلِّهَا، وَكَانُوا غَافِلِينَ عَمَّا تَقْتَضِيهِ وَتَسْتَلْزِمُهُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِذْ كَانَتْ فِي نَظَرِ أَكْثَرِهِمْ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ وَالصِّنَاعَةِ، وَكَانُوا قَدْ بَلَغُوا فِيهِمَا الْغَايَةَ؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا يُكَابِرُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي كُلِّ آيَةٍ، وَيُحَاوِلُونَ أَنْ يَأْتِيَ سَحَرَتُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ بِمِثْلِهَا، وَيَحْمِلُونَ عَجْزَهُمْ عَلَى تَفَوُّقِ مُوسَى عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَيُعُدُّونَ إِسْنَادَهُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى رَبِّهِ مِنْ قَبِيلِ إِسْنَادِهِمُ الْأُمُورَ إِلَى آلِهَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ بِحَسَبِ التَّقَالِيدِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ حُكَمَاؤُهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا لِأَجْلِ خُضُوعِ عَامَّةِ الشَّعْبِ لَهَا، وَأَمَّا مَنْ ظَهَرَتْ لَهُمْ دَلَالَةُ آيَاتِ مُوسَى عَلَى الْحَقِّ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ جَهْرًا كَكِبَارِ السَّحَرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ فَكَتَمَ إِيمَانَهُ كَالَّذِي عَارَضَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ فِي قَتْلِ مُوسَى بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ- كَمَا فِي سُورَةِ غَافِرٍ، وَذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ- وَمِنْهُمْ مَنْ جَحَدَ بِهَا لِمَحْضِ الْعُلُوِّ وَالْكِبْرِيَاءِ، كَفِرْعَوْنَ وَأَكَابِرِ الْوُزَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ.